الرشد الاقتصادي في الاسلام فريضة دينية وضرورة إنسانية

محمد ناصر ‏2024-01-15, 02:58 صباحا 82
الرشد الاقتصادي في الاسلام فريضة دينية وضرورة إنسانية

الرشد الاقتصادي في الاسلام فريضة دينية وضرورة إنسانية

يسبغ الفكر الوضعي وصف الرشد "العقلانية" على سلوك المستهلك إذا استطاع أن يصل بإنفاق دخله المحدود وفق أسلوب عقلاني إلى أقصى منفعة ممكنة بصرف النظر عن مضمون المنفعة وحقها وعن آثارها وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وعن الوسائل والسبل التي يسلكها الأفراد للوصول إلى هذه المنفعة وهذا المعنى للرشد مشتق من مفهوم كل من النجاح والمنفعة والبعد الزمني لسلوك المستهلك حيث إن هذه المفاهيم تجعل فلاح الشخص يتحقق بالحصول على أعلى مستوى من الحيارة المادية ليبلغ أقصى إشباع لحاجاته وشهواته في بعد زمني محدود وهي الحياة الدنيا

أما عن مفهوم الرشد في الفك ر الإسلامي فإنه يتفق مع مفهومه في الفكر الإنساني إلا أنه لا يقصر رشد الملوك على الطبيعة المادية للسلع ودرجة إشباعها بل يمتد بها إلى كل من طبيعة الوسيلة والمنفعة التي يسعى المستهلك لتحقيقها والهدف المتوخي من الاستهلاك لتلك المدافع فيدخلها في مقومات الرشد ولقد أوجب الإسلام الرشد

أي القصد والاعتدال في إشباع الحاجات وحذر من عواقب الإسراف والتبذير الوخيمة عاجلا وآجلا قال الله تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محشورا"

فلا يرى قط سرفا إلا ومعه ملامات وحقوق مضيعة فالاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة ورتبة ومنزلة بين منزلتين إذا المنازل ثلاثة التقصير في جلب المصالح والإسراف في جلبها والاقتصاد بينهما أي حسنة بين سيئتين ومعناه أن التقصير سيئة والإسراف سيئة والحسنة ما توسط بين الإسراف والتقصير وإنما يقعد المسرف كليلا مقطوعا لأن السرف وفرط الشره يحملان النفس على أضرار وأخطار في المعاملات مغباتها وخيمة وغوائلها عظيمة وقال الله تعالى "كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" إيذان بالتلذذ بأنعم الله من غير سرف وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيئا" وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من السرف أن تأكل كل ما أشتهيت" ثم إن السرف في الطعام أنواع وهم فمن ذلك الأكل فوق الشبع من مقدام بن معدي كرب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب بن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" ولأنه إنما يأكل لمنفعة لنفسه ولا منفعة في الأكل فوق الشبع بل فيه مضرة فيكون ذلك بمنزلة إلقاء الطعام في مزبلة أو شرا منه ولأن ما يزيد على مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره فإنه يسد به جوعته إذا أوصله إليه بعوض أو بغير عوض فهو في تناوله جان على حق الغير وذلك حرام ولأن الأكل فوق الشبع ربما يمرضه فيكون ذلك كجراحته نفسه والأصل فيه ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال "كف عنا جشاءك فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة" ولما قيل لعمر رضي الله عنه "ألا نتخذ لك جوارشا؟ قال وما يكون الجوارش؟ قيل هاضوم يهضم الطعام فقال سبحان الله أو يأكل المسلم فوق الشبع!" ومنه الاستكثار من المباحات والألوان وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت في ضيافة فأتيت بقصعة بعد قصعة فقامت وجعلت تقول ألم تكن الأولى مأكولة فإن كانت فما هذه الثانية وفي الأولى ما يكفينا ومنه أن يضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه إلا أن يكون من قصده أن يدعو بالأصياف قوما بعد قوم إلى أن يأتوا على آخر الطعام فحينئذ لا يأتي بذلك لأنه مفيد ومنه أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه ونحوه أو أن يتمسح به من غير أن يأكله أو يطعمه دابة لأن غيره يعافه فأن يأكله.

ومن الإسراف إذا سقط من يد لقمة أن يتركها بل ينبغي أن يبدأ بتلك اللقمة فيأكلها لأن في ترك ذلك استخفافا بالطعام وفي التناول إكرام وقد أمرنا بإكرام الطعام فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكرموا الخبز" وعنها رضي الله عنها قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فرأي كسرة ملقاة فأخذها فمسحها ثم أكلها وقال "يا عائشة أكرمي كريما فإنها ما نفرت عن قوم قط فعادت إليهم" وهذا لأن الإنسان مندوب إلى شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة وفي ترك اللقمة التي سقطت معنى كفران النعمة وأمر اللباس وكافة الحاجات نظير الأكل في جميع ما ذكر من نبذ كافة صور الإسراف وأشكاله وقال الله تعالى "وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا" أي لا تنفق المال في غير حقه فهذه الآية دلالة على وجوب حفظ المال والنهي عن تبذيره وتضييعه.

وإنما كان المبذرون إخوان الشياطين لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إليه ويشاكلونهم في معصية الله وهذا يتضمن أن المسرف كفور للنعم وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال "ما هذا السرف؟" فقال أفي الوضوء إسراف؟ قال "نعم وإن كنت على نهر جار" فهذا يعني أن الإسراف منبوذ شرعا ولو كان المرء يجلس على تل من ذهب وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا فإن أشكل بأننا أمرنا شرعا بإحسان الأكفان؟ يزال بأن المراد بإحسان الكفن نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وتوسطه وليس المراد بإحسانه السرف والمغالاة ثم إن الحلال لا يحتمل السرف وقال ابن خلدون "واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما" وقيل "ثلاث لا تكون في بيت إلا نزعت منه البركة السرف والزنا والخيانة"

وبالملاحظة تجد المقتصدين الوسطيين في إشباع حاجاتهم أحسن حالا في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتم وأحسن وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات وقد سئل ابن كلدة الثقفي ما الداء الدوي؟ قال إدخال الطعام على الطعام وهو الذي يفني البرية ويهلك السباع في جوف البرية وسئل ما الجمرة التي تصطلم منها الأدواء؟ قال هي التخمة إن بقيت في الجوف قتلت وإن تحللت أسقمت وسئل ما الحمية؟ قال الاقتصاد في كل شئ فإن الأكل فوق المقدار يضيق على الروح ساحتها ويسد مسامها والحاصل من هذا كله أن تدخل طائفة المستهلكين المفتعل بالإسراف في إشباع حاجاتهم يضر المجتمع في جوانبه الاقتصادية بصفة خاصة ومباشرة حيث تلحظ حركة تصاعدية في الأسعار وتدهور القوة الشرائية للنقود بكافة الجوانب الأخرى سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو إدارية بصفة عامة تبعا.

شارك المقالة