منزلة فقه المعاملات في الإسلام
المقصود بالمعاملة
كل تصرف يباشره الإنسان فيما بينه وبين الناس وإن جانب المعاملات علما وعملا لا يقل أهمية وقدرا في الإسلام بل وفي كل الديانات السماوية عن جانب العبادات فحظ المعاملات في القرآن والسنة ثلاثة أرباع بل تزيد إذا ما قورنت بالعبادات ثم إن العبادات جلها موقوتة بأزمنة معينة ومنوطة بشوط مخصوصة وجوبا وصحة بخلاف المعاملات فهي الوقت كله والحياة كلها فلا تخلو لحظة من معاملة
ومما يدل على ذلك من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل يثرب المدينة المنورة قال "أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" فالذي يتأمل عناصر التوصية يتبين له أن جلها يتعلق بجوانب المعاملات
وليس ذلك بعجيب فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان نموذجا للشخصية القويمة في جانب المعاملات وهذا ما عبرت عنه زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها حين رجع من غار حراء يرجف بعد نزول الوحي عليه وهو يقول لها "خشيت على نفسي" فهدأته وطمأنته قائلة "كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب نفسي فيها هي في النار" وقيل فامرأة تصلي المكتوبة وتصدق من أثوار الأقط ولا تؤذي أحدا بلسانها قال "هي في الجنة"
سوء المعاملة
وتجدر الإشارة أيضا أن سوء المعاملة بالقول أو بالفعل كفيل بأن ينسف حسنات المسئ التي أحرزها بكثرة صلاة وصيام وحج وغيرها من العبادات ولو كانت أمثال الجبال فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أتدرون ما المفلس؟" قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار"
مقالات ذات صلة
وإن كثرة العبادات لا تشفع لأحد إذا ساءت له معاملة فسوء المعاملة عمل محذور ملوم فعن المعرور بن سويد قال "رأيت أبا ذر رضي الله عنه وعليه برد وعلى غلامه برد فقلت لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة وأعطيته ثوبا آخر فقال كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرني إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال لي أساببت فلانا؟ قلت نعم قال أفنلت من أمه؟ قلت نعم قال إنك امرؤ فيك جاهلية قلت على حين ساعتي هذه من كبر السن؟ قال نعم هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه"
ويجدر التنبيه إلى أن المعاملات وإن كان الأصل أنها من قبيل المباحات إلا أنها تصير طاعات بالنيات الصادقات إذا ابتغى بها وجه الله ومما يدل على ذلك ما روى عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه – رضي الله عنه – قال "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنه أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال لا فقلت بالشطر فقال لا ثم قال الثلث والثلث كبير – أو كثير – إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك" أي حتى نفقة الرجل على زوجته إذا ابتغى بذلك وجه الله تعالى كان له بذلك أجر وثواب
حسن معاملة الآخرين
وإن حسن معاملة الآخرين ليست علما أو عبادة فقط وإنما هي فن وإبداع وذوق وجمال ومهارة فقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أخطاء الأعراب الجفاة بالحكمة والتأني مع الحلم والصبر عليهم والصفح عنهم وحسن توجيههم وإرشادهم وتربيتهم مع غاية الرحمة والرأفة بهم فعن أنس بن مالك قال بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مه مه! قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزرموه" أي لا تقطعوا عليه بولته دعوه فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له "إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن" ومنه أيضا ما روى عن معاوية بن الحكم السلمي قال بينا أنا أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلى؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" .
والخلاصة أن أصل المعاملات النزيهة الراقية هو حسن الخلق فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" وقال صلى الله عليه وسلم "حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" وقال صلى الله عليه وسلم "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن"