محتويات
"براءات الاختراع ليست ملكاً لأحد وتأثير ذلك على الابتكار والبحث العلمي"
براءات اختراع الطبيعة
- إذا كانت لديك مشكلة فالفرص متاحة حيث إن الطبيعة قد توصلت لحلها بأفضل مما يمكنك أن تصل إليه في أي وقت عندما يتحرك ضباب الفجر عبر الرمال الحارة لصحاري "ناميبيا" قرب ساحل جنوب غرب إفريقيا فإن الخنفساء التي تعيش في تلك المناطق تنطلق مسرعة – مع ضوء الصباح الخافت – إلى أعلى الكثبان الرملية باسطة أجنحتها الجافة تظهر قطيرات دقيقة من الماء سرعان ما تتجمع حتى تبلغ من الثقل ما يكفي لتحركها على سطح الأجنحة حتى تصل إلى فهم الخنفساء العطشى
- إن هذه الجرعة الضئيلة من الماء تمثل أهمية قصوى لتلك الحشرة المثابرة التي لن يتيسر لها الحصول على مثلها عندما تشتد حرارة الجو فور سطوع الشمس وارتفاعها في السماء ويبلغ قطر قطيرة الماء هذه – في ظروف ضباب الصحراء – نحوا من 0.025 من الملليمتر ويتيح ذلك البعد الضئيل لقطيرة الماء أن تحملها الرياح في اتجاه أفقي وبهذه الحيلة الذكية تتمكن خنفساء ناميبيا من البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف بيئية صعبة وهو السر الذي طالما اجتذب اهتمام العلماء وحاولوا تفسيره
- ويقول الدكتور أندرو باركر عالم الحيوان بجامعة أكسفورد والذي عكف على دراسة كيفية تأقلم الكائنات الحية مع الظروف البيئية القاسية "إن قطيرات الماء الكبيرة تتكون على سطح جناح خنفساء ناميبيا بفضل طبيعة هذا السطح المجعد ذي النتوءات" ويتسبب التركيب المعقد لهذه الأجنحة في تحرك قطيرات الماء على سطحها مثلما تتحرك قطرة المطر على سطح سيارة مطلية حديثا بالشمع
- وما يهم الإنسان في هذه العملية هو كيفية تطويعها والاستفادة منها لمصلحة فلقد تمكن الدكتور باركر من تصنيع مادة شبيهة تماثل في تركيبها النسيج الميكروسكوبي لجناح الخنفساء واعتمادا على ذلك أصبح بالإمكان الحصول على أسطح ذاتية التنظيف وتجهيزات لإزاحة الضباب إلى جانب حلول مثلى لمشكلة ندرة المياه في أكثر مناطق العالم جفافا
مقالات ذات صلة
- ويقول الدكتور باركر "إذا كنا اليوم قد تمكنا من تصنيع مثل هذه المواد النافعة فإننا ما كنا لنفكر في الحصول عليها لولا استيحاؤنا لعلم الأحياء والكائنات الحية"
- ويمثل عالم الطبيعة معينا غنيا بالأفكار وليس باركر بالوحيد الذي توصل إلى هذه النتيجة ففي المجال محاكاة الطبيعة طالما استلهم علماء الأحياء والكيمياء والهندسة تصميماتهم وابتكاراتهم منها لاستحداث تقنيات مستجدة وطالما تمخضت بلايين السنوات من تطور الكائنات الحية عن حلول فعالة وذات كفاءة لمشكلات كثيرا ما اعترضت حياة البشر على الأرض ويتمثل أهم تحد لباحثي محاكاة الطبيعة في مدى نجاحهم في مضاهاة تصميماتها للحصول على أكثر الحلول فائدة
استلهام الطبيعة
- يقول البروفسور جورج جيرونيميد مدير مركز محاكاة الطبيعية بجامعة ريدنج "تعلمنا محاكاة الطبيعة كيف نستخدم علم الأحياء للتوصل إلى حلول تقنية إن استنساخ التصميم الجيد من الطبيعة من شأنه أن يقدم لنا إجابات على بعض المشاكل المستعصية التي تواجهنا"
- لقد استوحى أندرو باركر تركيب عيون ذباب ما قبل التاريخ لإنتاج مادة خاصة ذات قدرة مذهلة على جذب الضوء ومن ثم صالحة لتصنيع ألواح خلايا امتصاص الطاقة الشمسية ذات كفاءة فائقة ومن ناحية أخرى فقد تمت محاكاة وسائل الاتصال الفذة التي تستخدمها الدلافين تحت سطح الماء لإنتاج نظام إنذار مبكر يصلح لمواجهة كوارث التسونامي كما أن التركيب الفريد لقدم الوزغ البرص البالغة الدقة قد تم استنساخه لتصنيع إنسان آلي قادر على تسلق الجدران العمودية كما أن السرعة الخاطفة التي تتمتع بها بعض الكائنات في تغيير شكل أجنحتها قد ألهم العلماء إنتاج طائرات حديثة ذات سرعة أكبر وضجيج أقل وقدرة أعلى على المناورة
- وتبدو فرص الاستفادة من محاكاة الطبيعة بلا نهاية حتى وإن اقتصر الأمر على محاكاة الحشرات إن الديدان المضيئة تنتج ضوءا بلا فاقد في الطاقة تقريبا وتقذف بعض أنواع الخنافس فرائسها بمواد كيميائية في درجة الغليان وهكذا يمكن أن نعدد ما لا نهاية له من الأمثلة المشابهة
- وليس استيحاء الطبيعة بالأمر الحديث فقد وضع ليوناردو دافنشي تصميما للطائرة باستلهام أجنحة الطيور وفي عصر أحدث أوحت الحيوانات المنزلية الأليفة باختراع عين القط التي لا تكاد تخلو منها طريق سريعة الآن ولعل المثال الأشهر هو الفالكرو شريط رابط من النيلون يستعمل في ربط منتجات الملابس الذي اهتدى إليه جورج دي مسترال في عام 1941 عندما لاحظ كيف التصقت بفراء كلبه أطراف بعض النبانات الشائكة التي تشبه أطرافها الخطاطيف الدقيقة
- حقا ... لقد بدأت التقنيات العملية في ملاحقة أحلام العلماء الأكاديميين وبفضل تكنولوجيا النانو والمجاهر الإلكترونية فقد بدأ فك طلاسم تصميمات معقدة من صنع الطبيعة
- ويقول البروفسور جيرونيميد "لقد وصلنا إلى تطور هائل في تقنيات القياس يتيح لنا تحليل العمليات الحيوية على أعلى مستوى من الدقة وأتاحت لنا هذه الأدوات الفرصة لفهم التكوينات والعمليات الحيوية المسئولة عن الخواص الاستثنائية التي نلاحظها في بعض الكائنات الحية"
- وإذا كان التعرف على هذه الخواص أمرا شائقا فإن محاكاتها والتطبيق العملي لها أمر آخر إن الطبيعة قادرة – عن طريق تنسيق أبسط مكونات المادة جزئيا جزئيا – على تخليق مواد غاية في التعقيد والتركيب بيد أنه كانت هناك نجاحات ملموسة بصفة خاصة في محاكاة الأشكال والهيئات الموجودة بالطبيعة فلقد تم تقليد هيئة السمكة المصندقة سمكة البحار الاستوائية التي يحيط بها شبه صندوق من الصفائح العظمية وكذلك ملك السمك في إنتاج بعض السيارات المعتمدة على قوانين الديناميكا الهوائية بحيث تكون أعلى سرعة وأكثر اقتصادا في استهلاك الوقود
- وإذا كانت محاكاة الأشكال والهيئات من الطبيعة من السهولة بمكان فإن محاكاة العمليات الحيوية أمر أكثر صعوبة حتى بالنسبة لأكثر مهندسي النانو مهارة.
هندسة النانو
- إن ملاحظة أجنحة خنفساء ناميبيا وطريقة تجميعها لقطيرات الماء تبين مدى تعقد محاكاة العمليات الحيوية في الطبيعة وصعوبتها فلإنتاج مادة مصنعة شبيهة ومكافئة لتركيب جناح خنفساء ناميبيا فإن البروفسور روبرت كوهين الكيميائي بمعهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا قد وضع طبقات من البوليمرات المشحونة التي تجعل شرائح الزجاج أكثر قابلية للامتصاص ثم أضاف حبيبات بالغة الدقة من السيليكا للحصول على سطح خشن يقتنص قطيرات الماء ثم غطى ذلك السطح بعدئذ بمادة صادة طاردة للماء شبيهة بالتفلون الشمعي قبل أن يغلف كل ذلك بمحلول من البوليمرات المشحونة فكانت النتيجة مادة متعددة المزايا تجتذب الماء وتقتنصه قبل أن توجهه إلى مسار معين
- ويطور البروفيسور "كوهين" تقنية مماثلة لتصنيع مادة قادرة على نزح الضباب بعيدا عن ممرات الطائرات بالمواني الجوية هذا بالإضافة إلى العديد من التطبيقات التي لم تدخل بعد حيز التنفيذ على أن الكثير من المبتكرات المستلهمة من علم الأحياء تشكل تحديا حقيقيا لجهود العلماء فالتركيبات المعقدة التي تقوم بها الطبيعة لا يمكن دائما محاكاتها
- إن حلزون البحر "البزاق" الرخو يفرز درعا حامية له بالغة الصلابة من كربونات الكالسيوم "الطباشير" وهو ينجز ذلك بتحوير تركيب بعض المواد البروتينية وتنسيقها في صورة آلاف الطبقات غير المنتظمة من وحدات دقيقة من هذه المادة
- وتترابط هذه الوحدات عن طريق مواد بروتينية تلتصق ببعضها بواسطة شحنات كهربائية موجبة لها من القوة ما يسمح بربطها معا مثلما يسمح بانزلاق تلك الطبقات وانفصالها عن بعضها عند الحاجة لتمتص طاقة أي صدمة عنيفة قد يتعرض لها الكائن
- ويشغف العسكريون بهذه الفكرة لتصنيع أسطح مدرعة شبيهة بيد أن الباحثين في هذا المجال لم يوفقوا بعد في تحقيق ذلك على نطاق عملي
- وربما تمثل خيوط العنكبوت الحريرية تحديا أعظم تلك المادة المرنة من صنع الطبيعة والتي تفوق متانة الصلب ومقاومته لإجهادات الشد
- إن إنتاج ليفة رقيقة مرنة لها مثل تلك المتانة لكفيل بإحداث ثورة حقيقية في العديد من الميادين .. من خيوط العمليات الجراحية إلى دروع المعدات الحربية إلى دروع المعدات الحربية ومن ثم فلم يكن من الغريب أن تعكف الشركات التي تنتج المواد الحيوية المصنعة على محاولة إنتاج مادة شبيهة ويرأس البروفسور "دافيد نايت" أستاذ علم الحيوان بجامعة "أكسفورد" إحدى هذه الشركات التي تجتهد في مزج خامات المواد المتكونة في جوف العنكبوت ثم غزل المحلول الناجم عن هذا المزج إلى خيوط ليفية للاستفادة بها في خياطة الجروح والأربطة المتمزقة .. وحتى الأعصاب
- ويقول البروفسور نايت "إن لخيوط العنكبوت العديد من الخواص المفيدة ولقد اقتربنا كثيرا من النجاح في استنساخ بعضها"
- لقد وفق الباحثون فعلا – عن طريق هندسة البكتريا جينيا – في الحصول على بروتينات شبيهة في تركيبها لخيوط العنكبوت والتحدي الحقيقي أمامهم الآن هو تصنيع جهاز يستنسخ طريقة مزج العنكبوت هذا الخليط من البروتينات في أثناء عملية الغزل التي تقوم بها وإذا كانت عملية غزل الألياف الصناعية في الصناعة تستلزم صهر جزيئات البوليمرات باستخدام الكيماويات والحرارة فإن العنكبوت قادرة على إجراء هذه العملية دونما حاجة لا إلى درجة حرارة عالية ولا إلى مذيبات كيميائية سامة
- وبالرغم من كل إمكانات التقدم العلمي فإن مثل هذه العقبات تشير إلى أن محاكاة عمليات الكائنات الحية الحيوية لم توفق بعد إلا في إنتاج عدد محدود من المنتجات الصناعية ولئن ألقى البعض باللوم على القصور في التنسيق بين أعمال الجهات الأكاديمية المختصة والمنوط بها تذليل تلك العقبات فإن آخرين يشيرون إلى أن الرغبة المحمومة لدى الصناعيين في تحقيق ربع سريع وفوري من منتجاتهم هي المسئولة عن هذا التقصير
- "حقا ... ما زالت الهوة واسعة ما بين التعرف على حل المشكلة والتحقق من جدوى الاستفادة من مثل هذا الحل ووضعه موضع التنفيذ" كما يقول أندرو باركر الذي قادته أبحاثه إلى العديد من براءات الاختراعات والمساهمات الصناعية على المستوى التجاري
تسويق المنتجات الصناعية القائمة على محاكاة الطبيعة
- ربما كان من الصعوبة بمكان غزو الأسواق بمنتجات محاكاة الطبيعة على أن الكثيرين من الباحثين قد كرسوا جهودهم لعبور هذه الفجوة ما بين البحث العلمي المجرد والإنتاج التجاري ففي عام 1998 قام جانين بنيوس بتأسيس مركز استشارات للتصاميم المستوحاة من الكائنات الحية حيث يعمل البيولوجيون – بالتنسيق مع عملاء المركز مثل شركات بوينج بروكتر وجامبل نايك هيولت باكارد وغيرها على تطوير مستحدثات تعتمد على رصد عالم الطبيعة ومشاهدته ويقول بنيوس "إن عملاءنا يضعوننا أمام تحد حقيقي يطرح مشكلاتهم التي يقتضينا حلها أن نجوس خلال محيطات لا تحد من المراجع العلمية في علم الأحياء .. ابتداء من الأميبا إلى الحمر الوحشية وعلى ذلك فإننا نبدأ في عمليات التصميم الهندسي مجتهدين في اختصار المشكلة إلى مستوى الوظيفة الحيوية المطلوبة ثم نشرع في الحصول على أفضل نموذج لحلها تزودنا به الطبيعة ومن ثم نحاول محاكاته"
- ويعتقد بنيوس أن القرن القادم سوف يشهد مولد تقنيات لها من الكفاءة ما للكائنات الطبيعية التي استوحيت منها هذه التقنيات وبالتقدم المطرد في تكنولوجيا النانو ستتاح لنا مجالات مستجدة ويؤذن استلهام علم الأحياء بثورة حقة في تعاملنا مع كل المسائل تقريبا .. بدءا من تخزين المعلومات إلى تصنيع المواد وزراعة المحاصيل وتسخير صور الطاقة والعلاج الطبي وسيؤدي الاسترشاد بنماذج الطبيعة إلى تطور مذهل في مجالات الهندسة والمعمار والطب كما يمكن أن يزودنا بمبتكرات تساعدنا في المحافظة على البيئة الطبيعية لذات النباتات والحيوانات التي أوحت إلينا بتلك الأفكار
- على أن محاكاة الكائنات الحية يمكنها أن تصل بنا إلى مدى أبعد فتحول الخيال العلمي إلى حقيقة واقعة فإذا استطعنا استيعاب الطرق المدهشة التي تتمكن بها هذه الكائنات من الزحف والسباحة والتسلق والطيران لأمكننا تصنيع إنسان آلي يستكشف – على نحو أفضل – أعضاء جسم الإنسان الداخلية وأغوار المحيطات بل والكواكب الموغلة في البعد عن الأرض وإذا تيسر لنا أن نتعلم كيف يعيد الكائن الحي بناء خلاياه وأنسجته لأمكننا أن نبني سفن فضاء وناطحات سحاب قادرة على العمل ذاته بحيث تستطيع ذاتيا معالجة التشققات التي قد تتعرض لها
- ومن يدري .. لعلنا إذا نجحنا في استنساخ خاصية الالتصاق المدهشة التي تتميز بها قدم الوزغ "البرص" الدقيقة أو طريقة غزل العنكبوت لخيوطها الحريرية فإننا سنتمكن من تسلق الجدران العمودية في أعلى مباني المدن كما الرجل العنكبوت في روايات الخيال العلمي